إن الفكرة الأساسية التي تعتمد عليها كل تعاليم “بوذية الزن” تحديدًا هي الاستغراق في الحاضر،
وتعلم فن الغوص في الذات؛ بغية سبر أغوارها، من جهة، وإبطاء معدل مرور الوقت الآخذ في الجريان بسرعة لا يمكن إدراكها أو تخيلها.
عدسة العقل الصافي
إذا كنا نقول أن ثمة رجوع وإشادة _من مختلف المشارب الفلسفية والسيكولوجية_
بالذات وجدوى الغوص فيها، واعتبار اليقظة الذهنية كعلاج ذاتي، فإن هذا لا يعني أن العقل
هو السبيل لحل كل المشكلات التي تعترض طريقنا في حياتنا اليومية؛ بل إن الأمر على عكس ذلك؛
فليس كل عقل يمكنه أن يكون خلاصًا لنا من المشكلات والضغوط، وإنما وحده العقل الصافي يمكنه فعل ذلك.
لكن هذا العقل الصافي لا يمكن الوصول إليه إلا عبر بوابة اليقظة الذهنية؛
ومن ثم إدراك الذات والوعي بها، والعثور، من خلال هذه العملية أو حتى كنتيجة مرجوة من خلالها، على الهدوء، والسكينة والسلام.
ولعل هذا هو المعنى الذي قصده Jon Kabat-Zinn حين قال:
“ليس أن الذهن هو الجواب على جميع مشاكل الحياة، بل يمكن رؤية جميع مشاكل الحياة بشكل أوضح من خلال عدسة العقل الصافي”.
كل شيء، إذًا، يبدأ من العقل الصافي، أو بقول أدق، من وعي مخصوص بالأشخاص والأشياء والعالم برمته المحيط بنا؛ فإذا تغيّر وعينا بشيء ما تغيرت طريقة تعاطينا معه، تلك، إذًا، واحدة من أهم المزايا التي يمكن العثور عليها من خلال اليقظة الذهنية.
المشي كممارسة تأمل رسمية
إذا تكاثرت عليك الهموم، أو شعرت بأنك واقع تحت ضغط عمل كثيف وكثير وتظن
ألا طاقة لك على أدائه في الحال، فقط حاول أن تغادر مكتب عملك، وأن تتمشى قليلًا ذهابًا وإيابًا
وأن تكرر ذلك لعدة مرات، وكن حريصًا، خلال هذا النشاظ، على الانتباه لجسدك تمامًا.
لاحظ وقع أقدامك على الأرض، وتأمل تنفسك، ونبضات قلبك، وجريان الدم في وريدك،
باختصار غص إلى الداخل قليلًا، فإن ممارسة كهذه ستجعلك تعيد ترتيب الأمور بداخلك من جديد،
وإدراك ما هو مهم منها، وما هو الأهم، وبعدها ستعود أدراجك إلى مكتبك وقد صرت يقظًا وطازجًا، وعارفًا بما يتوجب عليك فعله في اللحظة الحالية.
إن المشي واحد من أهم العادات التي يحرص عليها المتأملون اليقظون؛ فالمرء لا يحصل على أنبل الأفكار وأعمق الاستبصارات، سواء عن نفسه أو عن العالم، إلا وهو يمشي، جرب هذه الطريقة، فإن أجدت معك نفعًا فاتخذها لك عادة، واجعلها ممارسة تأمل رسمية.
ملء الفراغ واستخدام المتاح
أثناء حواراته، التي نُشرت فيما بعد في كتاب بعنوان “الأشياء الفريدة” مع صديقه جان نوفيل؛
المهندس المعماري الفرنسي، أشار الفيسلوف وعالم الاجتماع جان بودريار إلى أن الإبداع هو ملء فراغ ما، صحيح أن مقصد “بودريار” كان مقصورًا على المكان،
والحقل الثقافي فحسب، لكنه ينطوي على فكرة فريدة لم تكن بعيدة هي الأخرى عن “بوذيي الزن”،
وهي تلك المتعلقة بأن المتأمل اليقظ يتعين عليه أن يتعلم فن ملء الفراغ لكن به هو نفسه وحده دون سواه.
بمعنى أنه يتعين على المرء، كي يكون يقظًا بالعالم والأشياء من حوله بشكل كاف، أن يغوص إلى داخله،
وأن يكف، ولو مرحليًا وبشكل مؤقت، عن التفكير في كل ما/ مَن حوله، وأن يجلس هادئًا مستكينًا، مستمتعًا بالخواء والفراغ.
إن الهروب واللجوء إلى لحظات الفراغ التام هي، في العمق، بمثابة،
المحطة التي يعود إليها المرء كي يتزود بالطاقة، ويعيد شحن ذاته من جديد.
ما يلزمك لكي تكون سعيدًا؟ لا شيء سوى ما لديك حقًا، لكن بشرط أن تنتبه أصلًا إلى هذا الذي تملكه،
وأن تحسن استخدامه؛ فالحكمة هي القدرة على “استنفاذ جوهر الأشياء” وتلك واحدة من أبلغ وأشهر تعاليم بوذيي الزن.
وفي هذا المعنى يقول شونميو ماسونو؛ مؤلف كتاب “فن الحياة البسيطة”:
“الظفر بالكثير من الأشياء ليس حرية، المهم هو الظفر بعقلية استخدام الأشياء بحرية”.
ها نحن ذا نعود، مرة أخرى، إلى اليقظة الذهنية كعلاج مرة أخرى، وحتمية الوعي الذاتي، وضرورته وجدواه؛ فكل شيء متوقف عليه، الأشياء في نفسها لا تحمل معنى ولا تنطوي على قيمة، نحن الذين نمنحها، عبر وعينا بها وإدراكنا لها، المعنى والقيمة، فاختر ما تخلعه على الأشياء من معانٍ إذًا.
الاستغراق في الحاضر: اللحظة وقت خالد!
حرفيًا لا يمتلك الإنسان سوى الحاضر، سوى تلك اللحظات التي يعيشها الآن؛
فالماضي ولى والمستقبل مجهول، لكن عدم الوعي بهذه الحقائق ستوقع الإنسان في مشاكل جمة؛
منها، على سبيل المثال، إدمان النظر إلى الماضي ومآسيه، وإضاعة الحاضر _الذي لا نملك سواه_ في التحسر على ماضٍ لم يعد بحوزتنا.
ليس هذا فقط، بل إن هذا التعلق المرضي بالماضي وما انطوى عليه من ذكريات ومآس سيؤثر سلبًا في قدرتنا على فن الاستغراق في الحاضر، وعلى صحتنا كذلك.
والمستقبل كذلك، لم يأت بعد، وطالما هو في حكم المجهول أو كذلك بالفعل فإن التفكير فيه والخوف والقلق منه محض غباء.
ووجد الدكتور Martin Seligman؛ مؤسس “علم النفس الإيجابي”، والذي أمضى سنوات طوال في دراسة كيفية تأثير منظورات الناس في صحتهم، أن العديد من الأشخاص الذين لديهم مواقف سلبية يعتقدون أن الأشياء السيئة تحدث لهم لأنهم يرتكبون خطأ بطريقة أو بأخرى، ويرون أسوأ الاحتمالات في كل حدث، يؤدي هذا الموقف، في كثير من الأحيان، إلى تحولات في النظام الهرموني أو المناعي، ما قد يعرضهم لخطر أكبر للإصابة بالمرض.
وعلى كل حال، فإن ما يسعنا قوله، في هذا الصدد، إن الوقت، كما كان يقول جون كابات زين؛ هو نتاج فكر، فكيفما كان فكرك سيكون وقتك، والأمر متروك لك إذًا!
فتح دائرة التراحم: أنت جزء من كل مهول
إن الغاية القصوى والنهائية من التأمل، بل من النظر إلى اليقظة الذهنية كعلاج ،
كما هو الحال مع كل ممارسة تأملية أخرى، أن يعرف المرء نفسه؛ لكن الوصول إلى هذه المعرفة
بالذات ليس أمرًا سهلًا بحال، بيد أن المرء إن كان محظوظًا وتمكن من العثور على ذاته فسيتغير كل شيء فيه ومن حوله.
ومن بين أكثر النتائج طرافة والتي يمكن أن يحققها المرء، من خلال معرفة بذاته،
أن يكون أكثر وعيًا بالآخرين، أكثر احترامًا لهم، وشفقة عليهم. وعلى الرغم من أن هذا الجانب
يظهر الجانب الإيثاري والغيري لدى الإنسان إلا أنه ينطوي على مكاسب ذاتية ومنافع شخصية في الوقت ذاته.
فإذا تمكنت، مثلًا، من إدراك أنك مجرد جزء من كل كبير، وأن بيتك ليس سوى حبة رمل على شاطيء كبير، فستحتقر، حينئذ، مشاكلك وضغوطك، وستكون أكثر مرونة في التعامل معها.